فصل: تفسير الآيات (127- 128):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (125):

{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}
{بلى} إيجابٌ لما بعد {لَنْ} وتحقيقٌ له أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعدَهم الزيادةَ بشرط الصبرِ والتقوى حثاً لهم عليهما وتقويةً لقلوبهم فقال: {إِن تَصْبِرُواْ} على لقاء العدو ومناهضتِهم {وَتَتَّقُواْ} معصيةَ الله ومخالفةَ نبيِّه عليه الصلاة والسلام {وَيَأْتُوكُمْ} أي المشركون {مّن فَوْرِهِمْ هذا} أي من ساعتهم هذه، وهو في الأصل مصدرُ فارَت القِدرُ أي اشتد غَلَيانُها ثم استُعير للسرعة ثم أُطلق على كل حالةٍ لا ريث فيها أصلاً، ووصفُه بهذا لتأكيد السرعةِ بزيادة تعيينِه وتقريبِه. ونظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً أعني الصبرَ والتقوى مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطأوا لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال فُرِضَ، على أبلغ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى، فإن هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً، فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى كما إذا أردتَ وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول: إن لبستَها وبارزتَ بها الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها قطعاً {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ} من التسويم الذي هو إظهارُ سيما الشيءِ أي مُعْلِمين أنفسَهم أو خيلَهم، فقد رُوي أنهم كانوا بعمائمَ بيضٍ إلا جبريلَ عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراءَ على مثال الزبير بنِ العوام، وروي أنهم كانوا على خيل بُلْقٍ. قال عروةُ بنُ الزبير: كانت الملائكةُ على خيل بُلْق عليهم عمائمُ بيضٌ قد أرسلوها بين أكتافِهم. وقال هشامُ بنُ عروة: عمائمُ صُفْرٌ. وقال قتادة والضحاك: كانوا قد أَعْلموا بالعِهْن في نواصي الخيلِ وأذنابِها، روي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «تسوَّموا فإن الملائكةَ قد تسوَّمت» وقرئ {مسوَّمين} على البناء للمفعول ومعناه مُعْلِمين من جهته سبحانه، وقيل: مرسَلين من التسويم بمعنى الإسامة.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}
{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز القول مَسوقٌ من جنابه تعالى لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وأن حقيقةَ النصرِ مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنون ولا يقنَطوا منه عند فُقدان أسبابِه وأماراتِه، معطوفٌ على فعل مقدرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ فإن الإخبارَ بوقوع النصرِ على الإطلاق وتذكيرَ وقتِه وحكايةَ الوعدِ بوقوعه على وجه مخصوصٍ هو الإمدادُ بالملائكة مرةً بعد أخرى، وتعيينُ وقتِه فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاءً قطعياً لكن لم يصرَّحْ به تعويلاً على تعاضُد الدلائلِ وتآخُذ الأماراتِ والمخايل وإيذاناً بكمال الغِنى عنه بل احتراز عن شائبة التكريرِ أو عن إيهام احتمالِ الخُلفِ في الوعد المحتومِ كأنه قيل: عَقيبَ قولِه تعالى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ} فأمدَّكم بهم وما جعله الله الخ. والجَعلُ متعدٍ إلى واحد هو الضميرُ العائد إلى مصدر ذلك الفعلِ المقدر وأما عَوْدُه إلى المصدر المذكورِ أعني قولَه تعالى: {أَن يُمِدَّكُمْ} أو إلى المصدر المدلولِ عليه بقوله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ} كما قيل فغيرُ حقيقٍ بجزالة التنزيلِ لأن الهيئةَ البسيطةَ متقدمةٌ على المركبة، فبيانُ العلةِ الغائبةِ لوجود الإمداد كما هو المرادُ بالنظم الكريم حقُّه أن يكون بعد بيانِ وجودِه في نفسه، ولا ريب في أن المصدرَيْنِ المذكورين غيرُ معتبَرَيْنِ من حيث الوجودُ والوقوعُ كمصدر الفعلِ المقدرِ حتى يتصدى لبيان أحكامِ وجودِهما بل الأولُ معتبرٌ من حيث الكفايةُ والثاني من حيث الوعدُ على أن الأولَ هو الإمدادُ بثلاثة آلافٍ وقوله تعالى: {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العللِ، وتلوينُ الخطابِ لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البِشارة وتسكينِ القلوب بتوفيق الأسبابِ الظاهرةِ وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غنيٌ عنه بما له من التأييد الروحاني أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تُنْصَرون {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي بالإمداد وتسكُنَ إليه كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك، فكلاهما عِلةٌ غائيةٌ للجعل، وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه من اتحاد الفاعلِ والزمانِ وكونِه مصدراً مَسوقاً للتعليل، وبقيَ الثاني على حاله لفُقدانها، وقيل: للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما في قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بأن الملائكةَ عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتالَ وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوبِ المباشرين بتكثير السَّواد ونحوِه كما هو رأيُ بعضِ السلفِ رضي الله عنه. وقيل: الجعلُ متعدٍ إلى اثنين وقولُه عز وجل: {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} استثناءٌ من أعمّ المفاعيلِ أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشارةً لكم فاللام في قوله تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ} متعلقةٌ بمحذوف تقديرُه ولتطمئن قلوبُكم به فُعِل ذلك.
{وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصرِ على الإطلاق فيندرِجُ في حكمة النصرُ المعهودُ اندراجاً أولياً {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده تعالى من غير أن يكون فيه شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جَرَيانِ سنتِه تعالى أو وما النصرُ المعهودُ إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكةِ فإنهم بمعزلٍ من التأثير وإنما قصارى أمرِهم ما ذُكر من البِشارة وتقويةِ القلوب {العزيز} أي الذي لا يغالَب في حكمه وأقضيتِه، وإجراءُ هذا الوصفِ عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاصِ النصرِ به تعالى كما أن وصفَه بقوله: {الحكيم} أي الذي يفعل كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة للإيذان بعلة جعْلِ النصرِ بإنزال الملائكةِ فإن ذلك من مقتَضيات الحِكم البالغة.

.تفسير الآيات (127- 128):

{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)}
{لِيَقْطَعَ} متعلقٌ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ}، وما بينهما تحقيقٌ لحقيقته وبيانٌ لكيفية وقوعِه والمقصورُ على التعليل بما ذُكر من البُشرى والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ بالملائكة على الوجه المذكورِ فلا يقدَح ذلك في تعليل أصلِ النصرِ بالقطع وما عُطف عليه أو بما تعلق به الخبرُ في قوله عز وعلا: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} على تقدير كونِه عبارةً عن النصر المعهودِ، وقد أُشير إلى أن المعلَّلَ بالبشارة والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ الصوريُّ لا ما في ضِمنه من النصر المعنويِّ الذي هو مَلاكُ الأمر، وأما تعلقُه بنفس النصرِ كما قيل فمع ما فيه من الفصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبي هو الخبرُ مُخلٌّ بسَداد المعنى، كيف لا ومعناه قصرُ النصرِ المخصوصِ المعلَّلِ بعلل معيّنةٍ على الحصول من جهته تعالى، وليس المرادُ إلا قصرَ حقيقةِ النصرِ أو النصرِ المعهودِ على ذلك، والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصرُ الظاهرُ عند إمدادِ الملائكةِ إلا ثابتٌ من عند الله ليقطعَ أي يُهلِكَ ويَنْقُصَ {طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} أي طائفةٌ منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قُتل من رؤسائهم وصناديدِهم سبعون وأُسر سبعون {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يخزيَهم ويُغيظَهم بالهزيمة، فإن الكبتَ شدةُ غيظٍ أو وهنٌ يقع في القلب من كَبتَه بمعنى كَبده إذا ضرب كِبدَه بالغيظ والحُرقة، وقيل: الكبتُ الإصابةُ بمكروه، وقيل: هو الصرعُ للوجه واليدين، فالتاء حينئذ غيرُ مُبْدَلةٍ وأو للتنويع {فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} أي فينهزموا منقطعي الآمالِ غيرَ فائزين من مبتغاهم بشيء كما في قوله تعالى: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً}
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء} اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل والمعطوفِ المتعلّقِ بالآجل لتحقيق أن لا تأثيرَ للمنصورين إثرَ بيانِ أن لا تأثيرَ للناصرين، وتخصيصُ النفيِ برسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تلوينِ الخطابِ للدلالة على الانتفاءِ من غيره بالطريق الأولى، وإنما خُصّ الاعتراضُ بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبْتِ من مظانِّ أن يكونَ فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ} عطفٌ على يكبِتَهم والمعنى أن مالِكَ أمرِهم على الإطلاق هو الله عز وجل نصرَكم عليهم ليُهلِكَهم أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم إن أسلموا أو يعذبَهم إن أصرّوا على الكفر وليس لك من أمرهم شيءٌ إنما أنت عبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادِهم والمرادُ بتعذيبهم التعذيبُ الشديدُ الأخرويُّ المخصوصُ بأشد الكفَرةِ كُفراً، وإلا فمطلقُ التعذيبِ الأخرويِّ متحققٌ في الفريقين الأولين أيضاً، ونظمُ التوبةِ والتعذيبِ المذكورِ في سلك العلةِ الغائيةِ للنصر المترتبةِ عليه في الوجود من حيث إن قبولَ توبتِهم فرْعُ تحققِها الناشىءِ من علمهم بحقية الإسلامِ بسبب غلبةِ أهلِه المترتبةِ على النصر، وأن تعذيبَهم بالعذاب المذكورِ مترتبٌ على إصرارهم على الكفر بعد تبيُّنِ الحقِّ على الوجه المذكورِ.
هذا وقيل: إن عتبة بنَ أبي وقاصٍ شج رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُد وكسرَ رَباعِيَتَه فجعل عليه الصلاة والسلام يمسح الدمَ عن وجهه وسالمٌ مولى أبي حُذيفةَ يغسِلُ عن وجهه الدمَ وهو يقول: كيف يُفلحُ قومٌ خضَبوا وجهَ نبيِّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء} الآية. كأنه نوعُ معاتبةٍ على إنكاره عليه السلام لفلاحهم، وقيل: أراد أن يدعوَ عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه بأن منهم من يؤمن فقولُه تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} حينئذ معطوفٌ على الأمر أو على شيء بإضمار أنْ أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيءٌ، أو ليس لك من أمرهم شيءٌ أو التوبةِ عليهم أو تعذيبِهم. ونُقل عن الفراء وابنِ الأنباري أن {أَوْ} بمعنى إلا أن والمعنى ليس لك من أمرهم شيءٌ إلا أن يتوبَ الله عليهم فتفرَحَ به أو يعذبَهم فتتشفَّى منهم، وأياً ما كان فهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان بعضِ الأمورِ المتعلقة بغزوة أحُدٍ إثرَ بيانِ بعضِ ما يتعلق بغزوة بدرٍ لِما بينهما من التناسُب الظاهرِ لأن كلاًّ منهما مبنيٌّ على اختصاص الأمرِ كلِّه بالله تعالى ومنبىءٌ عن سلبه عما سواه.
وأما تعلقُ كلِّ القصةِ بغزوة أُحد، على أن قولَه تعالى: {إِذْ تَقُولُ} بدلٌ ثانٍ من إذ غدوتَ وأن ما حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع يومَ أحدٍ وأن الإمدادَ الموعودَ كان مشروطاً بالصبر والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحققِ الموعودُ كما قيل فلا يساعدُه النظمُ الكريمُ أما أوّلاً فلأن المشروطَ بالصبر والتقوى إنما هو الإمدادُ بخمسة آلافٍ لا بثلاثة آلافٍ مع أنه لم يقع الإمدادُ يومئذ ولا بمَلكٍ واحدٍ، وأما ثانياً فلأنه كان ينبغي حينئذ أن ينعى عليهم جنايتَهم وحِرْمانَهم بسببها تلكَ النعمةَ الجليلة، ودعوى ظهورِه مع عدم دِلالةِ السباقِ والسياقِ عليه بل مع دَلالتهما على خلافه مما لا يكاد يُسمع، وأما ثالثاً فلأنه لا سبيل إلى جعل الضمير في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ الله} الخ، عائداً إلى الإمداد الموعودِ لأنه لم يتحققْ فكيف يبيِّنُ علّته الغائيةَ، ولا إلى الوعدِ به على معنى أنه تعالى إنما جعل ذلك الوعدَ لبِشارتكم واطمئنانِ قلوبكم فلم تفعلوا ما شرَطَ عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجازُ الموعودِ لما أن قوله تعالى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم} صريحٌ في أنه قد وقع الإمدادُ الموعودُ لكن أثرَه إنما هو مجردُ البِشارة والاطمئنانِ وقد حصلا، وأما النصرُ الحقيقيُ فليس ذلك إلا من عنده تعالى.
وجعلُه استئنافاً مقرّراً لعدم وقوعِ الإمداد على معنى أن النصرَ الموعودَ مخصوصٌ به تعالى فلا ينصُر من خالف أمرَه بترك الصبر والتقوى اعتسافٌ بيّنٌ يجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله على أن قولَه تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} الآية، متعلقٌ حينئذ بما تعلق به قولُه تعالى: {مِنْ عِندِ الله} من الثبوت والاستقرارِ ضرورةَ أن تعلقَه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} الآية، مع كون ما بينهما من التفصيل متعلقاً بوقعة أحُدٍ من قبيل الفصلِ بين الشجرِ ولِحائِه فلابد من اعتبار وجودِ النصرِ قطعاً لأن تفصيلَ الأحكامِ المترتبةِ على وجود شيءٍ بصدد بيانِ انتفائِه مما لا يُعهدْ في كلام الناسِ فضلاً عن الكلام المَجيد. فالحقُّ الذي لا محيدَ عنه أن قولَه تعالى: {إِذْ تَقُولُ} ظرفٌ لنصرَكم وأن ما حُكي في أثنائه إلى قوله تعالى: {خَائِبِينَ} متعلقٌ بيومِ بدرٍ قطعاً وما بعده محتملٌ للوجهين المذكورين، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} تعليلٌ على كل حال لقوله تعالى: {أَوْ يُعَذّبَهُمْ} مبينٌ لكون ذلك من جهتهم وجزاءٌ لظلمهم.

.تفسير الآيات (129- 131):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)}
{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به عز وجل إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه تقريراً لما سبق وتكملةً له. وتقديمُ الجارِّ للقصر، وكلمةُ {مَا} شاملةٌ للعقلاء أيضاً تغليباً أي له ما فيهما من الموجودات خلقاً ومُلكاً لا مدخَلَ فيه لأحد أصلاً فله الأمرُ كلُّه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفرَ له مشيئةً مبنيةً على الحِكمة والمصلحة {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذِّبَه بعمله مشيئةً كذلك. وإيثارُ كلمة {مِنْ} في الموضعين لاختصاص المغفرةِ والتعذيبِ بالعقلاء، وتقديمُ المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمتِه تعالى غضبَه وبأنها من مقتَضيات الذاتِ دونه فإنه من مقتضيات سيئاتِ العُصاة، وهذا صريحٌ في نفي وجوبِ التعذيبِ، والتقييدُ بالتوبة وعدمِها كالمنافي له {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مقرر لمضمون قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} مع زيادة، وفي تخصيص التذييلِ به دون قرينةٍ من الاعتناء بشأن المغفرةِ والرحمةِ ما لا يخفى.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا} كلامٌ مبتدأٌ مشتمِلٌ على ما هو مَلاكُ الأمرِ في كل باب لاسيما في باب الجهادِ من التقوى والطاعةِ وما بعدهما من الأمور المذكورةِ على نهج الترغيبِ والترهيبِ جيء به في تضاعيفِ القصةِ مسارعةً إلى إرشاد المخاطَبين إلى ما فيه، وإيذاناً بكمالِ وجوبِ المحافظةِ عليه فيما هم فيه من الجهاد، فإن الأمورَ المذكورةَ فيه مع كونها مناطاً للفوز في الدارين على الإطلاق عُمدةٌ في أمر الجهادِ، عليها يدورُ فلكُ النُّصرةِ والغلَبة، كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لما لقُوا ما لقُوا، ولعل إيرادَ النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرةِ الناسِ طرق الاكتساب ومن جملتها الربا، فنُهوا عن ذلك، والمرادُ بأكله أخذُه، وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ، ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ، وقولُه عز وجل: {أضعافا مضاعفة} ليس لتقييد النهي به بل لمراعاةِ ما كانوا عليه ممن العادة توبيخاً لهم بذلك إذ كان الرجلُ يُرْبي إلى أجلٍ فإذا حل قال للمَدين: زدْني في المال حتى أزيدك في الأجل فيفعلُ، وهكذا عند محلِّ كلِّ أجلٍ فيستغرق بالشيء الطفيفِ مالَه بالكلية. ومحلُه بالنصبُ على الحالية من الربا وقرئ {مُضَعَّفَةً} {واتقوا الله} فيما نُهيتم عنه من الأعمال التي من جملتها الربا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين للفلاح {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين} بالتحرُّر عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطَوْنه. كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: هي أخوفُ آيةٍ في القرآن حيث أوعدَ الله المؤمنين بالنار المُعَدَّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمِه.